رمضان.. بين الدين والسياسة

  • PDF

الصيام وكورونا والحرب.. 
رمضان.. بين الدين والسياسة

جينيف / سويسرا: محمد مصطفى حابس

لما أفطر الرئيس بورقيبة علنا أمام الناس في بداية ستينات القرن الماضي وهو أمر لا يتصور شهوده في بلد إسلامي يومها ذلك ما ذهب إليه منذ عقود العديد من الملاحظين والمحللين أيامها كانت الجزائر خارجة لتوها من ثورة شرسة بينها والمستعمر البغيض أتت على الأخضر واليابس..
فكتب أحدهم معلقا على الحادثة بقوله تحت عنوان في الجزائر الإسلام في صميم السياسة حيث نشرت مجلة المسلمون العريقة في صفحات 88-90 من العدد السادس المجلد الثامن شوال 1383/ مارس 1964 الصادرة عن المركز الإسلامي بجنيف بسويسرا نقلا عن صحيفة إفريقيا الفتاة التي كانت تصدر بالفرنسية من تونس في عددها الصادر بتاريخ 3 فيفري 1964 مقالا بهذا العنوان للكاتب (عزيز معروف).
والشائع والمتداول عن مجلة المسلمون العريقة ان كل المقالات التي لها صلة بالجزائر وأخبارها كان يحررها أو يختارها أو يترجمها شيخنا العلامة محمود بوزوزو - رحمه الله - (1918-2007) من تلاميذ العلامة بن باديس وجمعية العلماء المسلمين باسمه تصريحا أو تلميحا وأحيانا باسم قلم التحرير حيث كتب يقول رحمه الله نترجم هذا المقال الذي يحمل عنوان في الجزائر الإسلام في صميم السياسة دون تعليق!: في مدينة تونس العاصمة كان على الرئيس بورقيبة أن يلقي خطابا أمام المسؤولين في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان. فأمر أن يعدوا له على منبر الخطابة كأسا من عصير البرتقال وكان ذلك في الساعة العاشرة صباحا وتناولها أثناء خطابه أمام جمع لا يقل عن ألف شخص وتحت أضواء آلات التصوير.
إن منظرا كهذا منظر الإفطار في شهر الصيام المقدس لا يتصور شهوده في الجزائر العاصة. ففي هذه المدينة لا بد من التمشي مع القواعد الدينية. ولا يعني ذلك أن الجزائريين كلهم يؤدون فريضة الصوم غير أنهم بارعون في الاشعار بذلك. اذ لا يتجرأ أحد على التدخين في الشارع أو الدخول إلى مطعم قبل أوان الإفطار وحتى المثقفون والعصريون الذين كانوا في العام الماضي (أي أثناء الاستعمار) يتناولون طعام الغداء علانية يجب عليهم في هذه السنة أن يسايروا التيار. لماذا؟.. فرد الكاتب بقوله: إن هذا السلوك يعبر في الواقع عن حالة سياسية فقد ظهر تيار إسلامي قوي يشجعه البعض ويؤيده آخرون. وهو يزداد كل يوم بروزا. ومن الواضح أن الإسلام ليس جديدا في الجزائر ولكن الامر الذي يستلفت الأنظار في الأسابيع الأخيرة هو أن يكون له ظهور سياسي (ممكن يقصد بذلك التحضير لتأسيس جمعية القيم أو التحضير لمؤتمر جبهة التحرير).


يجب علينا أن نرجع بوضوح للإسلام والقيم الدينية
مضيفا بقوله: ومنذ عشرة أيام تقريبا وقع اجتماع وهو الأول من نوعه شارك فيه بضع مئات من أولئك الإسلاميين الجزائريين تحت اشراف محمد خيضر. وقد اعلن المجتمعون عن سخطهم على الملحدين وعلى أعداء الإسلام. فهل هذا يؤذن بطلوع شبح الاخوان المسلمين في الجزائر؟ وعلى كل حال فإنّ رد الفعل قد كان سريعا إذ في الوقت نفسه قام جمع من اليساريين فيهم شبان مثقفون ينتمون إلى مختلف الاتجاهات السياسية وأساتذة ورجال علم فنشروا بيانا شديد اللهجة وصف فيه هذا الموقف بأنّه معاكس للروح الثورية وأنه خلط بين السياسة والدين.. من جهتها ترى لجنة اعداد مؤتمر جبهة التحرير الوطني تصادما بين أعضائها فمنهم من يقول يجب علينا أن نرجع بوضوح للإسلام والقيم الدينية بينما يفضل أخرون أن يقع التأكيد على الثقافة العربية الإسلامية مع التحذير بأنّ إدخال المراجع ذات الصبغة الدينية قد يؤدي سريعا إلى دفاع متزايد من حقوق الملكية وهي نظرية لا تتفق أصلا والاشتراكية التي وقع عليها الاختيار.. وبين هذين الموقفين يوجد كما هو واضح شيء أكثر من الفرق الدقيق في التعبير فإنّ التعارض بينهما أساسي ومن العسير التغلب عليه. وفي الوقت الراهن تسير الأعمال سير السرطان إلى الوراء ولا تزال المرحلة الثانية هي المشكلة الأساسية لم يطرق موضوعها المتعلق بمن سيشارك في مؤتمر جبهة التحرير؟؟..
وفي أثناء ذلك لا يزال الجيش الذي يعبر عن آرائه بانتظام في نشرته الشهرية (الجيش) محتفظا بمواقفه مطالبا بأنّ يوضع في المناصب الرئيسية رجال مخلصون أشداء وقد كتبت مجلة (الجيش) تقول لا تزال تهديدات تحوم على ثورتنا ومكتسباتها. فإنّ هناك رجالا يقومون بمناورات في الخفاء مستغلين نقصنا وتناقضاتنا. وأن عددا كبيرا من هؤلاء الرجعيين والمستغلين يوجدون في حضن أجهزتها الادارية والسياسية. ومن الضروري أن توثق الإدارة صلتها بالشعب. ولذلك يجب أن يقع الاختيار على رجال يحملون الاتجاه الذي اختاره البلد. ويجب تدقيق النظر في ماضيهم السياسي والظواهر التي تتصف بها أيديولوجياتهم ..
حادثة إفطار بورقيبة هذه المقززة بقيت على مر التاريخ نقطة سوداء في تاريخ من كان يسمى نفسه المجاهد الأكبر والتي رد عليها ايامها العلماء والكتاب في تونس وحتى عامة الناس ومثقفيهم في عالمنا الاسلامي وكذا المناوشات بين السياسيين الجزائريين في بداية الاستقلال إلا أن علمانيو الجزائر لم يجرؤوا على الإفطار علنا وحتى أثناء الثورة كانوا كثيرا ما يلتزمون ولو شكليا باحترام الصيام! وما بدعة امتناع بعض المستقورين منهم عن شرب الخمور أربعين يوما قبل مجيء الشهر الفضيل عن المبصرين ببعيد.. 


المسلمون الصائمون يتوارون عن الأنظار في أوروبا
يرتفع عدد المسلمين في أوروبا عقداً بعد الآخر بسبب التكاثر أو التوسع الديموغرافي وبسبب الهجرات المتواصلة من مختلف أنحاء العالم الإسلامي نحو القارة العجوز هرباً من الحروب وبحثاً عن حياة كريمة تحترم الإنسان وحقوقه أو بقصد التمدرس في جامعاتها لكن الاحصائيات الرسمية تقول أنه عدد الصائمين منهم في الشهر الفضيل يعد على الأصابع منهم من يخاف أن يعلن على الملأ أنه صائم ومنهم من يخفي صيامه ومنهم من يظهر أن الامر لا يعنيه البتة ولا يصوم عِلما أنه مسلم أبًا عن جد.. 
ومنذ عام 2011 مع بدء ثورات ما يسمى بـ الربيع العربي ومن ثم الحروب الكثيرة التي تلته سواء في سوريا واليمن وليبيا والسودان والصومال وإثيوبيا وإريتريا أو في أنحاء شمال إفريقيا واضطهاد مسلمي الروهينغا بميانمار والإيغور في الصين من ثم الانسحاب من أفغانستان ارتفع عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين إلى أرقام عالية جداً وقفت أمامها أوروبا في حيرة كبيرة ووقفت معها أيضا مؤسساتنا الإسلامية في حيرة كبرى مماثلة خاصة أمام هذه الأفواج الجديدة من اللاجئين التي همها الدنيا ولا يعرفون للمسجد سبيلا الا لأخذ الإفطار منه مجانا والتهامه قبل اذان المغرب في الحدائق والمنتزهات المجاورة على تعبير بعض المراقبين..
نعم مسلمو أوروبا موجودون فيها من زمن بعيد ولو أن الهجرة كاثرت أعدادهم ولكن لا بد من التفريق بين مسلمين قدماء باتوا جزءاً من النسيج الاجتماعي الأوروبي بعد ما وفقوا بين قواعد الدين والقانون العام والمسلمين الوافدين الجدد الذين ما زالوا في مرحلة التأقلم التي تبذل الدول الأوروبية وجاليتنا فيها جهوداً مضاعفة لإدماجهم وجعلهم جزءاً من المجتمع كما غيرهم من المهاجرين مثل ما هو حاصل اليوم في الدول الاسكندنافية والتي كانت أثارتها وسائل الاعلام منذ أشهر حول خطف للأطفال المسلمين من طرف مصالح الشؤون الاجتماعية السويدية ..


..وباتت موائد الإفطار الرمضاني تقليداً سياسياً سنوياً
وبغض النظر عن الإسلاموفوبيا بأشكالها ودوافعها التي انتشرت في أوروبا بشكل مفزع منذ عقود ومحاربة بعض الدول لما أسمته التشدد والتطرف الديني وتقصد به الإسلام لا غير يأتي شهر رمضان هذه السنة بعد ممغصات وباء كورونا التي بعدت بين الناس ليكون من أهم الوسائل التي اعتمدتها بعض الحكومات والمجتمعات الأوروبية كي تتقرب من المسلمين الذين باتوا يشكلون كتلاً سكانية ضخمة ومؤثرة في السياسة العامة داخل كل دولة وبنسب متفاوتة.. فرمضان هو شهر الرحمة والغفران في الدين الإسلامي وهو شهر الفرح والسرور لهم في كل مكان. وفيه تلتقي العائلة على موائد الإفطار بعد طول استغراق في التباعد نتيجة كورونا أو نتيجة الانشغال بهموم الحياة الكثيرة في الدول الأوروبية التي تخفف من أواصر العلاقات الأسرية.
وفي هذا الشهر الفضيل تقيم الجمعيات والمؤسسات الخيرية الموائد الجماعية التي تدعو إليها الفقراء والمحتاجين وغيرهم مسلمين وغربيين مفطرين وصائمين ما يسهم في الجمع بين مكونات مختلفة اجتماعياً ويؤدي إلى تعارف ثقافات وأديان مختلفة فيما بينها..
وباتت موائد الإفطار الرمضاني تقليداً سياسياً سنوياً في بعض الدول الاوروبية يشارك فيها إلى جانب مسؤولون كبار ورجال دين من مختلف الأديان وشخصيات بارزة في السياسة والمجتمع.. وهذا يدل على مدى الاهتمام بالإسلام كدين جديد في المجتمع الغربي لأهداف كثيرة أولها إدماج المجتمع الإسلامي ومن ثم الاستفادة خاصة من هذه الكتلة الناخبة سياسياً بالتأكيد وهو مربط الفرس بالنسبة لهم..


تأثير مخلفات جائحة كورونا على الاقتصاد وكذلك الحرب الروسية أوكرانية 
و يبقى السؤال المطروح اليوم والمفاجئ في أوروبا هو حول تأثير مخلفات جائحة كورونا على الاقتصاد وكذلك الحرب الروسية على أوكرانيا وما سببته من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة في أنحاء القارة بشكل جنوني لا يطاق التي تبدو أنها ذاهبة إلى ارتفاع أكبر خلال الأشهر المقبلة لا قدر الله يضاف لذلك حالة المسلمين وصيامهم واجتماعهم عند الإفطار وكثرة الأكل والتبذير دون التريث وأخذ الحذر الصحي اللازم.. رغم كل ذلك يبقى صيام رمضان مجاهدة وتربية وزاد وسلوك.. وهذا هو الصيام بمعناه العام وهو الاعتراف بنعمة الله تعالى على خلقه حينما يختبرهم بوقت بسيط محدد لكي يخفضوا جناح الرحمة لبني جنسهم.
وإذا كان الصيام يستلزم منا الإمساك عن شهوتي الأكل والشرب فليس هذا هو المقصود لقبولية الصيام كما ورد في الحديث (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) بل إنه قتل لجميع الشهوات التي تحرك الإنسان كالقوة والتهور والغرور والغضب والأنانية والعلو على الغير بغير حق هذه مرتبة من المراتب التي يجب على الصائم أن يلتزم بها ويتأدب بآداب الصوم وأن يجند جميع جوارحه الباطنية والخارجية حتى يصير المسلم مسلمًا حقًا.. فعلى المسلم أن يمسك يده عن الإيذاء والتعدي وتناول المحرمات وأن يجند رجله ويصونها عن المشيء والسعي في الإفساد والتخريب وكل ما يغضب الله وأن يمسك لسانه عن اللغو والإيقاع بين الناس والغيبة والنميمة وإفشاء الأسرار سواء كانت تمس حياة الأفراد مع بعضهم أو تمس حياة الأمة وحياة الوطن باعتبار الإنسان لبنة حية في وجوده.. وبالجملة فعلى الإنسان صون الجوارح كلها عن إتيان المحرمات وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وأن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم).
فالصوم كفاح وجهاد مستمر يكون المسلم فيه في حياة روحانية ربانية صافية قائما لربه قانتًا لمولاه معترفا بنعمة ربه عليه خالصًا لله لأن الله تبارك وتعالى هو الذي تكفل بإعطاء الأمر والجزاء لأنها حالة منفردة بين الإنسان وربه لا يشاركه فيها مخلوق وهي أيضًا خالية من الرياء والمباهاة حينما يختلي الإنسان بينه وبين نفسه فيزداد تمسكًا وصبرًا وثباتًا لكي يقضي يومه في صلاة وقراءة وجهاد في الحياة وليله في العبادة الخالصة لله. وهو في كل ذلك يردد بينه وبين نفسه: (اللهم لك صمت) كما جاء في الحديث القدسي: (يترك طعامه وشرابه من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها).