دعوة إلى إنشاء معجم طوبونيمي رقمي أندلسي

  • PDF

مراصد 
إعداد: جـمال بوزيان

حفاظا على اللغة والتاريخ والحضارة    دعوة إلى إنشاء معجم طوبونيمي رقمي أندلسي  

تَرصُدُ أخبار اليوم مَقالات فِي مختلف المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ.

*****
الطوبونيميا الأندلسية والأصول التسموية لمدن الساحل الجزائري
(البليدة آزفون القليعة)
ط‌. د. أحلام زيطاري

علم الطوبونيميـا أو علم المواقعية الذي يدرس أسماء الأماكن من حيث صياغتها ومعناها وتصورها فـي ملتقى العلوم الإنسانية (التاريخ اللغة والآداب علم الآثار... وغيرها) وعلـوم الأرض (الجيولوجيا علم المحيطات... وغيرها) إذ تقتحم هـذه العلـوم تـدريجيا حقـول الطوبونيميا لتوسيع آفاقها وتدعم حركية الكشف عن إمكاناتها المتعددة.
إن أسماء الأماكن هي التي تعين كل مكون جغرافي من مساحة بلد ما أو مدينـة أو رقعة جغرافية ومما لا شك فيه أن المواقعية علم يهتم بالأعلام الجغرافية التـي تحـدد المكان من خلال عتبة اللغة ومن منطلق يميز كل اسم مكان من غيـره فـي رسـمه وصوته ودلالته الأمر الذي يستحضر علومـا مسـاعدة مثـل (التـاريخ اللسـانيات الجغرافيا). 
ومن هذا المنطلق يعد البحث الطوبونيمي من ضـمن التخصصـات ذات الطـابع الاستراتيجي في الدراسات التطبيقية إذ هي مادة أنثروبولوجية وسوسيولوجية ولسـانية فهي توحي بكثير من الدلالات والمعاني التي تساعد على فهم المجتمع المراد دراسـته في نواحيه المختلفة: التاريخية الاجتماعية الثقافية... وغيرها.
وعليه تتنزل هذه الدراسة البحثية للإجابة على الإشكالية الآتية: 
كيف أسهمت الدراسة الطوبونيمية في كشف خلفيات وروابط تسميات المدن الساحلية الجزائرية بالأندلس؟ وإلى أي مدى ارتبطت أسماء المدن الجزائرية بالمعجم الأندلسي؟ وما هذه المدن؟


نبذة تاريخية عن علم الطوبونيميا: 
تندرج تحت لواء التراث البشري علوم شتى من بينها أسماء الأماكن أو ما يعرف بصيغة أخرى بالطوبونيميا حيث اهتم الكثير من العلماء منذ القدم بالطوبونيميا لأنه غالبا ما كان يشك في تأويلها ولم تكسب صفة العلم إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا فقد خصصت قواميس خرائطية لبعض المقاطعات ويعد أوغيست لوئيون ( August ( Longon المؤسس الأول للمواقعية حيث ألف كتاب أسماء أماكن فرنسا في سنة 1920 م بمنهجية منظمة ثم قام من بعده باحثون بتطوير أعماله ومنهم ألبرت دوزا (Albert Douzat) شارل روستينغ ( Chorles Rostaing ) وأرنست نقع ( Erenest ( Negre ويواصل حاليا المختصين التعمق في أبحاث علم المواقعية.
مفهوم الطويونيميا: 
الطوبونيميا أو المواقعية أو علم الأسماء -toponymie - toponumy والمشتقة من الكلمة اليونانية topos والتي تعني المكان و onoma التي تعني الاسم وهي العلم الذي يدرس أسماء الأماكن والمعروفة بالطوبونيميا toponymes فالمواقعية علم لساني يهتم بدراسة معنى و أصل الأماكن والتطورات التي طرأت على هذا الاسم عبر الزمن فالعلاقة بين الاسم والمكان أي الدال والمدلول تنقل أحداثا جرت في الماضي وتكشف عن علاقة الإنسان بذلك المكان.
يقول ألبرت دوزا: إن المواقعية تمكننا من فهم الروح الشعبية ميولها سواء كان أسطوريا أم حقيقيا والوسائل التي تعبر بها فهي ليست تحقيق وثائق فقط إنما من الأدوات الكبرى لحفظ اللغة والتاريخ والحضارة ومن خلالها يتسنى فهم ما قصده المجتمع ونتمكن من قراءة ثقافته واهتمامه وتطوراته. 
فالدراسة المواقعية تهتم بدراسة أصل المكان وعلاقته باللغة الحالية أو اللغات الأقدم التي كانت سائدة لأن تسمية الأماكن عبارة عن بحث وشرح للألفاظ الطبيعة وعلاقتها مع الكيان الإنساني.. كما تعكس التسمية بوصفها منتوجا اجتماعيا بعض الأبعاد الاجتماعية التي تحرك حياة المجتمع حيث تظهر النماذج التسموية لكل حضارة خصوصياتها وقيمتها الاجتماعية تماما كما تجسد أنماطها الثقافية وأعرافها وطقوسها وتقاليدها التي تنفرد بها عن غيرها فالأسماء تعكس صورة الزمان والمكان والتكوين الاجتماعي والثقافي والمنظور العقلي كما تظهر الأسماء أبعاد الثقافة والحضارة وتصبغها بصبغتها وتطبعها بطابعها. 
والغرض من الدراسة المواقعية هو التعرف على أصل تسمية مكان ما وتكون هذه التسمية مرتبطة إما بأسماء الشعوب والقبائل وحتى أولياء الله الصالحين.. فهي دراسة لاسم المكان من الناحية التاريخية أو الجغرافية أو الأنثروبولوجية أو الدينية أو العِرقية.




مجال الدراسة (مدينة البليدة): 
تقع في شمال الجزائر تشكل مساحتها جبال الأطلس (الأطلس البليدي) إلى الجنوب وسهل متيجة في الجزء الشمالي ومدينة البليدة عاصمة متيجة تدعى بمدينة الورد يحدها من الشمال الجزائر العاصمة وتيبازة ومن الغرب عين الدفلى ومن الجنوب المدية ومن الشرق البويرة وبومرداس وهي مركز إداري وتجاري وتشتهر بمنتجاتها الزراعية والصناعة الغذائية وتتمتع بمناظر سياحية جميلة.. وهي محاطة بالحدائق الكروم البرتقال والزيتون وأشجار اللوز وحقول القمح والشعير والتبغ وشتى أصناف الفاكهة وتشتهر بإنتاجها لمستخلصات الأزهار.
ولدت مدينة البليدة من رحم المعاناة الأندلسية / الموريسكية وشهدت النور إثر حادثة مهمة هي وصول 7 آلاف لاجئ أندلسي إلى شواطئ المنطقة استقدمهم خير الدين باشا بأسطوله في إطار حملات النجدة التي كان يقوم بها... يقول البروفيسور مصطفى أحمد بن حموش موضحا: ... تعرضوا بعد وصولهم إلى الإقليم الجديد إلى مضايقات شديدة من قبائل جبل شنوة في تيبازة وذلك ما دفع الشيخ سيدي أحمد الكبير للهب إليهم والاتصال بهم واستقدامهم إلى مكان إقامته الذي تحول مع الزمن إلى مدينة صغيرة .
وبعد عقود معدودات من استقرار الأندلسيين / الموريسكيين على أرضها تحولت البليدة إلى إحدى أجمل وأغنى الحواضر الجزائرية بعبقها الأندلسي وثقافتها الموريسكية الرقيقة وبيوتها وقصورها الجميلة التي شيدت على النمط الإيبيري / الإسلامي الشبيهة بديار مدينة الجزائر العتيقة وبجناتها الواسعة الخضراء والشبيهة بالعاصمة الجزائرية أيضا بحرفها وصنائعها على غرار بعض مراحل صناعة الشاشية والصباغة وصناعة الزليج الذي زينت به جدران الديار والقصور والعيون العامة.
سبب التسمية:
وتحولت أحراشها والضواحي المحيطة به بعد تحويل ذكي لمياه وادي الزمان من طرف سيدي أحمد الكبير وتطوير تقنيات استغلالها على النمط الأندلسي إلى بساتين وضیعات مروية بالسواقي والنوريات أصبح يضرب بها المثل إلى اليوم.. وكثيرا ما أطلقت على هذه البساتين والجنان المنتشرة في أرباض البليدة أسماء بلدات في الفردوس المفقود أو تتضمن نسبة ما إليه.. نذكر منها: بوقرة التي تحيل إلى Bogarra ) الواقعة في بلدية أنغيتا Anguita ) في إقليم وادي الحجارة الإسباني ( Guadalajara ) ووادي الزمان التي لها نظير أندلسي هو بلدة غوزمان ( Guaroman ) في مقاطعة جيان أو خايين ( Jaen ) حسب النطق الإسباني في إقليم الأندلس جنوب إسبانيا الحديثة والشبلي التي تحيل إلى الإشبيلي... إلخ.
وأحدثت تلك العائلات الأندلسية / الموريسكية نهضة زراعية واقتصادية في كامل سهل المتيجة امتدت إلى بلدتي بوفاريك والشبلي وما جاورها ومونت بخيراتها حتى العاصمة الجزائرية التي لا تبعد عنها سوى بحوالي 80  كلم.. وما تزال البليدة تُعرف باسم مدينة الورد و البليدة الوريدة ويضرب المثل بحضرها وفواكهها وعصيرها وحتى بحلوياتها على غرار زلابيتها التي ما تزال إلى اليوم تحتل الصدارة من حيث الجودة والتنوع والشعبية.
مجال الدراسة (مدينة آزفون):
آزفون إحدى بلديات دائرة أزفون التابعة لولاية تيزي وزو تعد قِبلة سياحية للعديد من الجزائريين المقيمين في الجزائر وفي الخارج وذلك لما تحويه من لوحات جمالية إضافة لهذا فإنها تعد مقر لمختلف الثقافات بسبب موقعها الجغرافي فقد عاشت فيها أجناس مختلفة كالبربر والعرب والأندلسيين والأشراف (المرابطين)... إلخ.
سبب التسمية:
يقال أن اسم مدينة آزفون مشتق من كلمة عازفون ويروى في القديم أن عازفي موسيقى الأندلسيين نزحوا إلى هذه المنطقة إذ نرى أن هناك الكثير من فناني موسيقى الشعبي من هذه المنطقة.. وتبقى هذه التسمية بحاجة إلى التدقيق.
کما تتميز آزفون عن محيطها وبشكل مثير للانتباه بقدرتها على إنتاج النخب الثقافية في مختلف المجالات ولا سيما في الموسيقى وقد لمع الكثير من عناصر هذه النخب منذ النصف الثاني من القرن 19 م على الأقل .. من بينهم الحاج محمد العنقاء وبوجمعة العنقيس وعمرو نذكر من بينهم الفنانين الموسيقيين البارزين في الغناء الشعبي وفي النوع العشاب والحاج مريزق وعمر مكرازة وكمال مسعودي... إلخ وبسبب هجرة الأندلسيين إلى مدينة آزفون ولاية تيزي وزو سميت قرية في هذه المدينة الساحرة  اث وندلوس .
وهذا ما أعده الباحث فوزي سعدالله من آثار هذه العائلات الإيبيرية المسلمة اليوم بلدة كاملة تحمل اسم آث واندلوس ومعناها بالأمازيغية المحلية: ال بني الأندلس إضافة لمؤشرات لسانية محضة وثقافية توحي بوجود شذى الأندلس في كل أرجاء هذه البقعة القريبة من العاصمة الجزائرية التي ما يزال سرها الأندلسي حبيس صدرها.


مجال الدراسة (مدينة القليعة):
القليعة مدينة تقع غرب الجزائر العاصمة بـ26 كلم تعد من المدن الموريسكية أسست سنة 1550 م من طرف الأندلسيين القشتاليين والغرناطيين والبلنسيين وقد أسسها حسن باشا بن خير الدين بربروس.. يحترف أهلها الصناعة والفلاحة والحرف التقليدية وتعد من أكبر مدن غرب العاصمة الجزائر من حيث الكثافة السكانية والنشاطات التجارية والصناعية.
مدينة القليعة القريبة من العاصمة الجزائرية بناها مدجنو قشتالة وأرباض غرناطة على ضفاف وادي ماء زعفران أو مازافران کاخور نطق اسم الوادي منذ العهد الاستدماري والتحق بها عدد كبير من اللاجئين من بلنسية فعمروها ووسعوها فكانت مدينة أندلسية موريسكية خالصة على حد تعبير أ. د. ناصر الدين سعيدوني وازدهرت اقتصاديا وديمغرافيا حتى بلغ عدد سكانها حوالي 30 ألف نسمة كانوا يقطنون 5 آلاف منزل.. وهذا ما أدى بالكاتب الإسباني مارمول كارتخال إلى تسميتها مدينة المهاجرين الأندلسيين .


في ضوء ما سبق نحاول تقديم بعض الاقتراحات والتوصيات بغية الإسهام في تجديد أو إعطاء القيمة الاعتبارية القديمة للطوبونيمات الأندلسية في الجزائر نحـو إعادة بناء ذاكرة المكان: دعوة خاصة للباحثين والجامعات والمؤسسات الرسمية إلى البحث العلمـي في مجال الطوبونيميا الأندلسية واستحداث آليات ووسائل جديـدة للبحـث عـن عمـق الهويـة التاريخيـة للطوبونيمات الأندلسية في الجزائر والحفر في عمق النص المصدري واستثمار التكنولوجيا الحديثة في حفظ التراث والدراسات الطوبونيميـة مـن أجل تفعيل معجم طوبونيمي رقمي أندلسي استجابة لعصر الرقمنة.


*****