فشل ذريع في تشكيل جبهة معارضة للإسلام في المدينة المنورة

  • PDF

مراصد
إعداد: جمال بوزيان

سعيا لوقف امتداد الدين الجديد
فشل ذريع في تشكيل جبهة معارضة للإسلام في المدينة المنورة

تَرصُدُ أخبار اليوم مَقالات فِي مختلف  المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ.

*****
حدود الإسلام وبيان مفسدات الانتماء له
الجماعة المدنية الموحدة في مواجهة التطرف في الانتماء الطبيعي (المجالي والقومي) والنزعات النفسية (العقلية والمصلحية)
بقلم: الدكتور عبد النور محمد

لا يقصد بالحدود هنا الحدود التشريعية التي تتعلق بالوجوب والتحريم والإباحة والاستجابة لها إنما ما يسبقها من مواقف وجودية يقع فيها المحسوبون على الإسلام من الذين يعلنون انتماءهم إليه ويمارسون عكس مقتضيات الانتماء ذاك ما يجعل خطرهم على الدين أكبر من غير المنتمين إليه بله قد يكون غير المسلم علنا أقرب إلى روح الإسلام من المسلم غير الملتزم بروحه ظاهرا وباطنا فالظاهرة الأخيرة قد وجدت منذ البداية من القسيسين والرهبان الذين تفيض أعينهم من الدمع لما عرفوا من الحق كما وجدت ظاهرة المسلمين البعيدين عن روح دينهم منذ البداية أيضا تجلت في توصيف الأعراب بأنهم أشد كفرا من الكفار وأشد نفاقا من المنافقين فهي مفارقة ذات دلالة كبرى أعني أن الدين نبّه منذ البداية إلى عدم أهمية الدين الرسمي للشخص وأن المعيار هو القرب من روح الدين لا الانضواء الفعلي والمادي تحت الجماعة أو الخروج منها فحرر مفهوم الانتماء من الشكل الرسمي الظاهر وأحاله للمضمون الباطني الخفي وسأعالج في هذه المقالة عنصر الانتماء الرسمي للإسلام والبعد عن روحه على أن أتصدى لعلاج العنصر المقابل: عدم الانتماء للإسلام والقرب من روحه في مقال آخر إن شاء الله.


والابتعاد عن روح الإسلام ليس صنفا واحدا إنما أصناف أربعة كما هو واضح من العنوان الثانوي لكن قبل الدخول في علاج المواقف الأربعة من المهم التنبيه إلى أنها مواقف غُفل أعني أن المبتعدين عن روح الإسلام لا يدركون في الغالب أنهم كذلك وذلك لكونها مواقف طبيعية ناتجة عن ظروف البيئة المحيطة التي تجعلهم يفهمون الإسلام على طريقتهم المخالفة لروح الإسلام الحقيقة دون إغفال حقيقة أن نخبة من كل تلك الفرق قد تتولى كبر الابتعاد عن الدين بقصد بينما الغالبية تكون غافلة فقط قد يكفي تنبيهها لترعوي للحق فقد جاء في الآي أن المنافق غير واع بنفاقه أحيانا ويكون انكشافه بعد اختبار وليس موقفا مسبقا وواعيا دائما والدليل الفعلي على ذلك أيضا سؤال ابن الخطاب لحذيفة عما إذا كان موجودا في القائمة وعمر هو ما هو! ما يعني أنه موقف يتلبس صاحبه دون وعي في الأغلب الأعم وعند البداية خاصة (1).


وعليه فإن الانتماء لدائرة الإسلام إذا لم يكن واعيا تماما بروح الإسلام اعتقادا وعملا فإن التنكب عنها سيكون يسيرا لذلك فإن المفترض أن الجيل الأول في الإسلام بما فيه النبي (ص) قد كانوا واعين تماما بالأخطار الأربعة المهددة لقيام الإسلام بذاته أو المهددة بنقض الانتماء له انتماءً حقا وعليه أمكن اعتبار أن الإسلام والانتماء له يتعرف سلبا بنواقضه الأربعة فهو قد عرف نفسه بها لأن التعريف الموجب بالإسلام سيكون أعسر لكونه نتيجة لمقاومة ما لا نهاية له من الرواسب السابقة والنوازع الآنية والمطامح الآتية وهو مؤدى وصف النبي (ص) للإسلام: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فالإسلام في تعريفه الموجب يؤخذ جملةً لا مجزّأ ذلك أن نواقضه الأربعة ليست في الواقع إلا أخذا به من أحد أو  بعض أجزائه مبتورا من بقية الأجزاء وأخذه بالتمام يستحيل إنما هو في النهاية مخاض تجربة مركّبة فيها من التعقيد ما لا يمكن تداوله بالخطاب إلا في خطاب نسقي مطول تنوء بإدراكه الناس أو في جوامع كلم يعسر استيعابها أيضا.


وعلى ذلك لا يمنع محاولة التعريف به من خلال الجمع بين الأسلوبين النسقي والشذري بالقدر المستطاع بحيث يكون مدخلا إلى تعريف نواقضه الأربع إذ يمكن أولا تجزئته إلى إسلام اعتقاد وإسلام عمل على ما بينهما من ترابط شديد:


1- التحقق الفعلي للاعتقاد في الإسلام يكون من خلال طبيعة صورة الله والنبي ومكانتهما في النفوس والأذهان. 


2- التحقق الفعلي للعمل في الإسلام يكون من خلال الموقف من النبي والجماعة المسلمة في الفعل والأعيان.


على أنها جميعا مواقف أخلاقية تتطلب السمو إليها حتى الإسلام في جوهره يغدو موقفا أخلاقيا بداية وغاية ذلك أن الاعتقاد يتطلّب تنزيه الله عن التجسيد وتخصيص محمد بالعصمة عن الخطأ فمحمد من حيث هو نبي ممثل عن الموقف الإلهي الدقيق بلا حياد في كل المواقف دينية (من حيث التشريع) ودنيوية (من حيث سمو أخلاقه) وعليه فإن غاية العمل يتطلب اتباع النبي في حياته وموته باعتباره الأحق بالتعظيم والتكريم ومؤدى ذلك اتباع تشريعاته والخضوع لأحكامه وباعتباره نقطة ارتكاز الجماعة المسلمة إبان حياته وبعد موته من حيث الاتفاق على كونه صاحب الفضل الذي حوله تتحد الجماعة الإسلامية الاتحاد الذي به تكون فكرة التوحيد الله وتنزيهه متجسدة في كتلة اجتماعية تأتمر بأوامر النبي المختار إلهيا والقائد المختار اجتماعيا وليتضح الموقف أكثر أمضي إلى بيان حيثيات المواقف التاريخية الأربعة وأبعادها الاعتقادية والسلوكية بحيث تكون ممكنة الاسقاط على المرحلة الراهنة لحياة المسلمين وباعتبار أن البعد عن روح الإسلام يعني أن الأغلبية الساحقة تندرج في أحد المواقف الأربعة بغفلية مع ما يكتنفها من إصرار وترصد عند بعض النخب.


أولا: ظاهرة التعرب باعتبارها توغلا في التبدي والابتعاد عن المدنية والتحضر وذلك للأثر الذي تحدثه البيئة الطبيعية على سلوك الإنسان واعتقاداته والتعرب لغويا هو الشدة في العروبة من حيث أن التبدي والظعن أصل العرب شدة تبعد أصحابها عن وسطية الإسلام الذي خفف من التعرب ليس فقط بالأخلاق التي أسسها إنما أيضا بحفاظه على البيئة التي تكفل استمرار تلك الأخلاق وهو التمدن من حيث هو يسر لأحوال العيش وارتباط بالجماعة لذا أنكر الدين على من يتبدى بعد تمدنه واعتبره نكوصا في تدينه ليس مخافة ارتداده عن الدين إنما مخافة فساد دينه واستمرار عيشة التوحش بدل التآنس الذي لا يصلح تدين المرء من دونه وهي الظاهرة التي وجدت خلال عهد النبوة وشكلت أحد الموضوعات المتكررة في النص القرآني باعتبارها شقا لوحدة الجماعة بفعل الطبائع الوحشية والجلف والجفاء الذي ربى عليه الأعراب و هي الظاهرة الجغرافية التي استحالت إلى مفهوم حد لتعريف الإسلام سلبا بها.


ثانيا: ظاهرة القومية باعتبارها النقيض المتطرف للتعرب وهو تقديم الانتماء العرقي على الانصهار في الجماعة الإسلامية وهي الظاهرة التي برزت بعد عهد النبوة والتي يرجح أنها كانت سبب اغتيال الخليفة عمر والتي مفادها النقمة على العرب من حيث هم أصحاب الفضل في الرسالة الدينية الأخيرة وعلى رأسهم محمد (ص) ومنجزاته فالظاهرة القومية التي تسمت الشعوبية كانت قد ظهرت كنوع من احتجاج غير معلن على إرث العرب للأمجاد والأفضال التي حصلت لهم في الفترة التي تلت نهاية عهد النبوة بفضل الإسلام ونبيه فالقومي يعيش حسدا داخليا على المنجزات الحضارية الأولى للمسلمين التي كانت حصرا للعرب فالحركة الشعوبية ظهرت من داخل الفضاء الإسلامي بعد توسعه لم تنكر الإسلام لكنها أبطنت اعتراضا على حقيقة تحول العرب من أمة بدوية هامشية إلى أن صاروا شعبا مركزيا في حضارة ذلك العصر وهي ظاهرة ارتبطت بالفرس أولا وهو ما يفسد انتماءهم للإسلام باعتبار تقديمهم العِرق على التوحيد وهي الظاهرة الديمغرافية التي استحالت إلى مفهوم حد لتعريف الإسلام سلبا بها.


ثالثا: ظاهرة النفاق بما هي إعلان للإسلام والولاء للإسلام وإبطان للكفر والعمل ضد صالح المسلمين وهي الظاهرة التي برزت في عهد النبوة وأشار إليها القرآن معتبرا أنها أخطر من الكفر البواح وأصلها تتبع المصلحة الدنيوية مع السعي لعدم فقد مزايا ما قبل الإسلام من سيطرة اليهود على اقتصاد المدينة والتحالف مع المشركين فحاولوا أن يكونوا موقفا وسطا بين الإسلام ومناوئيه مبطنين نفاقهم على المسلمين ومعلنيه لغيرهم فهو نوع من اندساس وسعي لإضعاف الجماعة الإسلامية نفسيا وفكريا وبشكل خفي ومحاولة تفكيكها من الداخل والظاهرة ناشئة عن مسايرة للسياق الأغلبي العام بعد التيقن من أن تشكيل فريق اعتراض على قدوم محمد (ص) إلى المدينة أمر غير ممكن حيث استحال تشكيل جبهة قوية ضد الإسلام في المدينة لمقاومة الدين الجديد كما حدث في مكة لذلك فهي مقاومة ناشئة عن ضعف فصيلها لكنها من حيث آثارها أخطر من الكفر فالظاهرة التي كان رمزها عبد الله بن أبي هي ظاهرة باطنية استحالت إلى مفهوم حدّ لتعريف الإسلام سلبا بها.


رابعا: ظاهرة الخروج عن الجماعة باعتبارها تطرفا نقيضا للنفاق من حيث هي استباق إلى تطبيق الأحكام والتشريعات الإسلامية من دون توسط السياقات والاعتبارات الأساسية فالخوارج ظاهرة تأسست على إغلاق باب النظر في الظروف والسياقات والاعتبارات الأولوية فجعلت الأولوية المطلقة لها التنزيل المباشر للأحكام والنصوص دونما اعتبار للسياق وعلى ذلك فهي وإن كانت ظاهرة برزت بعد عهد النبوة إلا أن أصولها تعود إلى ذي الخويصرة الذي واجه النبي (ص) بقوله: إعدل فإنك لم تعدل! وهو كلام يبطن عدم اعتبار الوزن والمكانة الاعتبارية للنبي بوصفه صاحب سلطة مزدوجة: نبي وأمير فضلا عن ذلك الفهم التمامي للدين وأن لا منزلة بين المنزلتين وذلك ما أدى بعد الخروج التصوري عن الدين إلى الخروج الفعلي عن الكتلة الإسلامية واستباحة دمها باعتبارها مارقة عن الدين جملة بما هو إسقاط لأحكام تشريعية مباشرة دون اعتبار النصوص خاصة النص الوسيط الأحاديث النبوية الشارحة للنص القرآني والمبينة للإسقاطات والاستثناءات والتكييفات باعتبارها الوجه التتميمي الضروري للتشريع وهي الظاهرة الظاهرية التي استحالت إلى مفهوم حد لتعريف الإسلام سلبا بها.


يتبع