فكرة الدِّين القَيِّم هي الاحتكام للعِلم

  • PDF

مراصد
إعداد: جمال بوزيان

الإسلام لم يتحيز لقوم أو ثقافة أو تاريخ أو جغرافيا
فكرة الدِّين القَيِّم هي الاحتكام للعِلم

تَرصُدُ أخبار اليوم كُلَّ حِين مَقالات فِي جميعِ المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ.

رغم أن الإسلام أخرج الناس من طبائعها الوحشية
الشعوبية الفارسية ما تزال تعيق العرب في استعادة أمجادهم

أ. د. محمد عبد النور

... وعليه يمكننا الخلوص إلى أن الحدود السلبية التي تعرف بها الإسلام أنها انقسمت أولا إلى حدّين طبيعين هما:

1- الحد الجغرافي أو الانتماء إلى المجال البدوي.
2- الحد الديمغرافي أو الانتماء إلى المجال الأعجمي.

عند مجيئ الإسلام أخرج العرب من طبائعهم الوحشية التي ورثوها عن تبديهم الذي فرضته عليهم ظروف صحراء شبه الجزيرة باعتبار أنهم قد بدأوا في مكة والمدينة تمدنا كان مبتورا من الرؤية الكونية والتنزيه المطلق للذات الإلهية وبالتالي فالإسلام حالة استَبَقت وثنيي العرب إلى الحضارة ودعتهم إلى المدنية بقيمها ومعاييرها حيث غدا الإسلام انتماء مجالي-أخلاقي فيه تتكثف العلاقات والمصالح داخل الجماعة الإسلامية وخارجها وهنا تحضر المشكلات الراهنة في عدم نجاح مشروع التمدين في العالم العربي فلئن حصل تمدن بمظاهره وحضر بمجاله وهو السكن في المدن ومكابدة مشكلاتها إلا أنه بقي مقتصرا على التمدن المجالي شكلا دون استصحاب قيمه ومعاييره المضمونية التي أسسها الإسلام وتوصلت إليها النظريات الطبيعية فبقي إنسان العالم العربي بدوي الذهن لم يرتفع إلى أخلاق الفطرة المدنية بعد أن نكص إليها بعد نهاية العصر الذهبي (2).


كما أن الإسلام دعا غير العرب لاتباع الدين ذي الصبغة العربية: نبيه العربي ونصه العربي فأخرج غير العربي (الفارسي بدايةً) من كبريائه المدني والحضاري لاتباع دين الحق الذي ظهر في عمق مجتمع متوحش فأخرج الفرس من حضارة وثنية بعيدة عن التوحيد ورسالته الكونية فكان الإسلام قد استبق مجوس الفرس إلى الإرث الكتابي للأديان السماوية ودعاهم إلى الانصهار في حضارة عالمية لا يوجد فيها للانتماء القومي مكان إلا التنافس على الإيمان وتحقيق مقتضى الخيرية بما هو عدل ونماء ولمناصبة العِداء للعرب من حيث كونهم حملة الإسلام وقيمه الأخلاقية بأبعادها الكونية تاريخ ما يزال مستمرا إلى اليوم ترمز الشعوبية الفارسية إليه وانتشارها بين بقية القوميات غير العربية وهي اليوم تمتد إلى القوميات التي تسعى لإعاقة العرب عن استعادة أمجاد العصر الذهبي للإسلام إما بالصراع المباشر معهم أو باختلاق الصراعات بينهم.


كما انقسمت الحدود السلبية للإسلام إلى حدين موقفين نفسيين هما:


1- الحد الباطني أو هو تبني موقف النفاق.
2- الحد الظاهري أو هو تبني موقف الخروج.


الإسلام موقف إرادي-ذهني وحّد بين باطن الإنسان وظاهره ولم يشرع التقية إلا لخدمة فكرة التوحيد وخدمة مصلحة الأمة وحتى التقية مشروعة لمخاتلة الأعداء فحسب فهي غير مشروعة بين الكتل والمجموعات الإسلامية بالمعنى الطبيعي وليس بالمعنى الأخلاقي لأن المعنى الأخلاقي يجب أن تكون الجماعة الإسلامية واحدة فاشتد الإسلام على النفاق شدة كبيرة كما يفهم من النصوص أنه يتراوح بين نفاق غفل يتبين من خلال بعض السلوكات الإخلادية والمماطلة من بعض المسلمين وبين نفاق سبق وترصد يظهر في التآمر مع الأعداء ضد المسلمين ويندرج فيه المتعرّبون وأعداء العرب من المسلمين وكذا يندرج فيه أهل الكتاب المعادين للإسلام والوثنيين ورمزهم عبد الله بن سبأ والسبئية ممن اعتنقوا الإسلام للكيد به والإيقاع بين المسلمين وإقحام العقائد الوثنية فيه إقحام ما فسد من العقائد الكتابية والنفاق حالة ممتدة من الماضي إلى الحاضر من حيث المواراة وتبني خطاب الأصالة إما لتحريفه أو إخفاء النية والقصود للانقلاب عليه في لحظات الحاجة الحرجة والاسقاط المعاصر على ذلك هو ما يتجلى من محاولات تثبيط الجمهور عن عزائم الأمور أو مداهنات لسلبيات كان يجب إصلاحها.


ركز الإسلام على وحدة الكتلة الإسلامية من الناحية السياسية ونعى على المتسللين لواذا من مجالس النبي فلم يقدروه حق قدره الديني بصفته نبيا مختارا وعلى المنادين له من وراء الحُجرات فلا يقدرونه حق قدره الدنيوي كأمير للجماعة المسلمة لذلك فإن العائد العملي لتقدير شخصية النبي له جانب عقدي من حيث الإقرار بمركزيته في الدين ليس في الإسلام فقط بل كخاتم للأنبياء وأنجح التجارب النبوية على الإطلاق ومن مركزيته أيضا سنته التقريرية والقولية والعملية باعتبارها الواسطة الوضعية بين القانون الإلهي الوارد في النص القرآني وبين التنفيذ العملي لذلك القانون (3) والعائد العملي لتقدير شخصية النبي كرمز إلى تقدير شخصية الحاكم عموما وعدم استسهال الخروج عنه والإسقاط التاريخي لذلك هو أن موقف التكفير واستباحة الدماء والخروج عن السلطة الشرعية جاء من كتلة القراء التي تبنت في أغلبها موقف الإسقاط المباشر للنص الديني على الواقع دون الاحتكام إلى العلم بما هو فقه بشروط تنزيل الأحكام أما الإسقاط المعاصر فهو ما يحصل من تسرع في خلع الأحكام على المسلمين وتسرع أيضا من تنفيذ ما يرى أنه تنفيذ مجرد للنص الشرعي أو تقليد أصم للفعل النبوي والمسارعة للتكفير أو الاستهانة بمفهوم الانتماء للأمة.


لذلك فإننا إذا جمعنا الظواهر المرضية التي تعرف بالإسلام سلبا أمكننا تعريف الإسلام إيجابا ليس بوصفه توسطا لتلك الأحوال إنما بوصفها مواقف يجب أن تراعى كما يأتي:


1- للإسلام مجاله المكاني الحيوي وهو المدينة ضديدا على التبدي أو التريف بلغة العصر بمعنى العيش البعيد عن إطار الحواضر في الصحراء أو في الريف بما يورث سلبيات نفسية وسلوكية تعود سلبا على تدين المرء على أن هذا لا يعني الاكتفاء بمظهر التمدن بل يجب أن يترافق التمدن مع أخلاق أسسها الإسلام أولها البعد عن إرضاء الشهوات الفردية من الانحرافات من معاقرة الخمر والزنا ومعادلاتها اليوم أو النوازع الجماعية من التعصب الإثني والقبلي والميل إلى محاباة أبناء الانتماء والجهة كمبدإ يقضي على معايير الكفاءتين الوظيفية والأخلاقية.


2- للإسلام مجاله الديمغرافي المفتوح فقد أسس الإسلام للمجتمع المفتوح الذي لا اعتبار فيه للانتماء القبلي ولا العشائري ولا العرقي ولا القومي فالتعصب أيا كان مستواه يورث انحرافا عن جادة الإسلام بتقديم المتأخر وهو التعصب وتأخير المتقدم وهو التوحيد على أن هذا لا يعني إهمال الانتماء الطبيعي فالشريعة قد أولت القرابة والانتماء العشائري أهمية تنظيمية لكنها لا تصل إلى مستوى أهمية عقدية لأنه عقديا لا شيء يعلو فوق صوت الانتماء للدين والجماعة الدينية في الإسلام ليبقى الانتماء الطبيعي عصبا من أعصاب الانتماء الأخلاقي يجب أن لا ينقلب عليه البتة.


3- التدين بالإسلام الحق يوحد باطن الإنسان بظاهره فهو وإن كان قد بدأ كدعوة بالتدرج لكن فكرته كانت واضحة صريحة منذ البداية التوحيد ونبذ الأوثان وتسفيه أحلام المشركين ولا هوادة في ذلك فإسلام المرء يجب أن يبقي المبدأ حيا في النفس حتى وإن اضطر للتنازل عنه ظاهريا كما حصل مع الصحابي عمار بن ياسر وفي ذلك أسس النص القرآني نفسه: .. إلا من أكره.. لكن بداية النفاق هو الشعور بالمفاصلة عن الواجبات واستثقالها ومبدؤه عدم الصدق في الولاء للفكرة وللجماعة والذي ينتهي إلى عدم التصديق والكفر الصادق أفضل من الإيمان المنافق أي أن من لم يجد في نفسه نضج فكرة الانتماء والولاء أن يصرح بذلك ويظهرها للعلن خير من أن يبطنها ويعمل ضدها بشكل غير صريح.


4- لم يأت الإسلام مطلقا من كل تحيز تاريخي وجغرافي وقومي وثقافي لذلك فإن ما يحقق الوصل بين النص الإطلاقي وهو الوحي القرآني وبين التحيزات والتجسدات الظرفية للإسلام وهو شخصية النبي وأقواله وأفعاله وتقريراته واجتهادات صحابته والتابعين كلها تندرج ضمن الوجه التتميمي للإسلام فختم الإسلام لنزول القرآن ليس ختما لتحققه التاريخي الذي يمكن التأريخ لنهايته بنهاية الخلافة الراشدة وبشكل نسبي وحتى كانت للقرآن أسباب نزول ظرفية تجريبية ودقيقة جدا لذلك فإن المهمة هي الاحتكام للمرجعية العلمية والسلطة السياسية التي بفضلها يبقى الإسلام إسلاما قائما على فكرة الاحتكام للعلم كما تقدم تعريفه هنا والاحتكام للسلطان كما تقدم تعريفه هنا أيضا.


وأخيرا أحمد الله على ما أبلغني هذه المنية -في غرة شوال 1444 هجرية وأول أيام عيد الفطر المبارك- إلى تحرير هذا المقال الذي يعالج بعض أدواء الأمة ويسهم وإن بالنزر اليسير في التنبيه لمكامن الداء سعيا للنهوض والاستئناف والخروج من الاخلاد والنكوص وبما فيه من إشارات وإضاءات قد تكون مختصرة ومختزلة عابرة لكن حسبي هنا التنبيه ولعل الله ييسر تفصيل ذلك في تأليف أوفى وأطول من هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.


-------------------------------------------


(1)- إذا افترضنا أن البعد عن دائرة الإسلام بأحد المواقف الأربعة تكون في البداية عفوية وبالتالي يسهل إرجاع صاحبها إلى الحق لكن عند ما تتعقد المشكلة وتصبح مرتبطة بالمصالح الاقتصادية ومعادلات الجاه أو استبداد بالرأي وتنطعا فإن الأمر سيستحيل إلى تنكب مقصود عن الحق.


(2)- كتب ابن خلدون في سلبيات العرب انطلاقا من ملاحظاته على القبائل العربية كيف نكصت عن الروح التي بثها فيهم الإسلام وهو النكوص الذي لاحظه ابن خلدون بعد سبعة قرون من ظهور الإسلام وهي القرون التي عرفت بداية وأوج مجد العرب بالإسلام ثم مرحلة ابن خلدون التي بدت فيها إرهاصات الركود النهائي لهذا التوثب...


(3)- مكانة النبي محمد (ص) في حياته تعد بمثابة النظرية العلمية وتنظير العلماء من بعده من حيث هو فقه بشروط تحول النص الخالد إلى واقع فعلي متحقق وذلك معنى العلماء ورثة الأنبياء فالأنبياء لهم مهمة التبشير بالتوحيد ومهمة تنفيذ الوصايا الإلهية في الواقع فإذا كانت المهمة الأولى ثابتة فإن الثانية بحاجة إلى مواكبة ومتابعة وبعد ختم النبوة أصبحت شروط العلم بالدين والفقه به حاصلة ما يعني أن السير بالرسالة وتجديدها لن يحصل إلا على يد العلماء ممن امتلكوا ناصية كيفيات تنزيل الأحكام الإلهية على الواقع وأن مشكلة الخوارج ماضيا وراهنا هي التصدي للحكم والأحكام بلا وازع علمي بما هو تفصيلات أقوال النبي وشروط تنزيلها العقلية والسلوكية.


*****