الروائي الهادي يكشف لصوص السياسة والثقافة والعِلم والبحث

  • PDF

مراصد
إعداد: جمال بوزيان

مثل ما فضح كوفيد 19 ألاعيب الأدعياء من أجل المال
الروائي الهادي يكشف لصوص السياسة والثقافة والعِلم والبحث

تَرصُدُ أخبار اليوم مَقالات فِي جميعِ المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ.

*****
رواية المستقبل.. رواية 2160 للكاتب الهادي جاء بالله
بقلم: أ. ليلى عوني

قرأت كتابا للناقد البشير الجلجلي يتحدث فيه عن علاقته بمحمود درويش حيث سأله عن الشعر والمستقبل فأجاب: الذاهب إلى المجهول هو الذي يبقى .. والمجهول هنا قد طرقه الروائي الهادي جاء بالله في روايته الثالثة رواية 2160 حيث لامس موضوعا يتصل بالألفية الثالثة وخاصة ما تعلق بالبيئة والتغيرات المناخية. 
الرواية عن دار عليسة للنشر عام 2023 م من الحجم المتوسط تقع في 150 صفحة وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول كلمة وإهداء بقلم المؤلف والثاني الرواية والثالث تعقيب الدكتورة نور الهدى باديس. 
ولسنا نبالغ إن قلنا: إن الروائي جاء بالله قد قام بمغامرة بطرح هذا الموضوع فهي مختلفة عن السائد بعبارة باديس يحتار القارئ في تصنيفها على مستوى الجنس الأدبي لأنها تحتوي على فنون عديدة ومجالات كثيرة لعبور الرواية لهذه الأجناس كالشعر والقصة والإحصاء والتنجيم والطب وعلم المناخ والتعجيب. 
يقسم الكاتب روايته إلى قسمين: ما قبل الكارثة الكبرى وما بعدها.. وبين هذين الحدثين تنبجس الأحداث والأخبار ويطول الزمن فيكون في المطلق والمجهول الذي تحدث عنه درويش في بداية هذا المقال فتطول المغامرات وتدور الأحداث في مدينة رودة فتعيش الشخصيات الغرابة في السن والحياة فيمتد عمر الإنسان أكثر من قرن ونيف هو إنسان 2160.
وحسب رأيي يمكن أن تكون هذه الرواية لليافعين لما يجدونه من تشويق ومتعة وتصلح كذلك للرجل العالم والمثقف الذي يبحث فيها عن ذاته وعن مستقبل أولاده بعد الكوارث الكبرى التي حلت بالأرض وانفتاح السماء وخاصة ثقب الأوزون عند ما نتحدث عن شخصية خالد مثلا الذي يبلغ 170 سنة وقاصي وهو في سن المئة وجسمه متماسك وشخصيات أخرى كقيس وسوار الزوجة الثالثة لخالد التي نفرت من الزواج بعد سن المئة والخمسين.
لعب الكاتب لعبة الذاكرة بين الماضي والحاضر والمستقبل لذلك نجد أغلب الأحداث تقوم على هذا المعنى وقد تغيرت هيأة الإنسان فأصبح ضئيل الجسم وتقلص لحمه وعظمه وهو تغير عقب الكارثة الكبرى نتيجة التغير المناخي الذي أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوت مادة جديدة هي مزيج من الهيدروجين والأكسجين قال عنها الكاتب: وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة مادة كانت وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض . 
تحكمت في الرواية بنية زمنية مختلفة كان الاسترجاع فيها هو المهيمن عبر ثقوب الذاكرة.أما النهاية الفاجعة لخالد الذي بدأ يفقد شيئا فشيئا مكوناته فسقط الشعر وتحلل الجلد وانتهى الجد خالد إلى التحلل ولم يبق منه غير الذكرى والرأس الذي يرمز إلى الأصالة والهوية.
كان الروائي الهادي جاء بالله واعيا بأن الرواية عمل خيالي لذلك استعمل العجائبي وهو الكتاب الذي أخذت منه مقولة درويش الذي نقلها الجلجلي حيث يقول في كتابه: إن العجائبي هو سُلالة سردية تؤثر في بنية الرواية ودلالاتها وهو ما بدا واضحا في هذه الرواية التي اعتمدت هذا المنحى العجائبي في بناء الأحداث والشخصيات والعلاقات بينها حتى أنه استعمل تقنية الميتاروائي أو الرواية الواصفة باستعمال الرواية داخل الرواية وقد وجدنا في الصفحة 112 أن الجد خالد يكتب سيرته الذاتية يقول: لقد أصبح الجد خالد أكثر حرصا على مواصلة كتابة سيرته الذاتية وذلك بدافع التردد والهروب من أسئلة تتصارع في داخله وتدفعه للدخول في مغامرة تعامل مع المحفز الجديد سال - سال . 
تنفتح الرواية عن ذاتها وتحدث عن مشروع كتابة الرواية وهو ما ظهر في عنوان هذا العمل الّذي صدره بمفهوم رواية سماها 2160 وهو واع بأن هدف الكاتب هو تطوير أعماله الروائية فبعد رواية الدراوس سنة 2002 م ورواية موسم الرزاز 2006 م و2013 م في طبعتين نجده يقدم على العمل الثالث ناقدا لصوص السياسة والثقافة والبحث والعِلم الذين لا هدف لهم إلا المال وبقي الإنسان خارج دائرة الاهتمام وقد فضحهم جميعا فيروس كوفيد 19 الذي حطم وهم الإنسان.  


*****


وقفة مع فيلم سينمائي
لا علاقة للون البشرة الآدمية بالثقافة والحضارة..


بقلم: د. عمر عباس






شاهدت فيلما جميلا جدا لطالما أردت الكتابة عنه هذا الفيلم يعالج مشكلة العنصرية مما قيل عنه في وصفه على منصة تيلغرام: (سأترك لكم رابط مشاهدة الفيلم في آخر المقال).
Green Book (2018)
حارس إيطالي أمريكي من الطبقة العاملة يصبح سائق عازف بيانو كلاسيكي أمريكي من أصل أفريقي في جولة في أماكن عبر أمريكا الجنوبية الستينيات.
في بداية الفيلم استقبلت زوجة هذا الكائن الأبيض رجلين زنجيين لإصلاح عطب في المطبخ ورآها زوجها تعطيهما العصير في كوبَي زجاج وحين خرجا تناول الكوبين ورماهما في سلة النفايات ثم انضم إلى طاولة الأكل حيث كانت العائلة البيضاء الكبيرة مجتمعة فرفعوا أيديهم يبتهلون الله ويشكرونه لأنه يطعمهم ويسقيهم أما في المشاهد الأخيرة في الفيلم بعد رحلة شاقة صار الكائن الأبيض صديقا حميما للكائن الزنجي واعترضتهما مشكلة حين ساءت أحوال الطقس فقال الزنجي للكائن الأبيض _وكان بينهما انسجام كبير: ضع لنا حجر الحظ (هو حجر جميل ملون كان يحمله الكائن الأبيض معه) حتى نشعر بالحماية والأمان. 
يريد صانع الفيلم من هذين المشهدين أن يخبرنا أن الإيمان بالله هو سبب العنصرية أما الإيمان بالحجر (الوثن أو الصنم) هو ما يجعل حياتنا أفضل. 


أحببت أن أشارك هذه الملاحظة مع الأصدقاء الذين شاهدوا الفيلم إذ أن كتابة مقال عن هذا الفيلم الجميل يحتاج الكثير من الوقت لأنه -رغم بساطته- تحفة فنية تستحق الوقوف معها مطولا.. إذ الفكرة التي أعجبتني في الفيلم هي أن أصل الإنسان لا يكفي وحده حتى يكون شخصا راقيا في حواراته وتعاملاته ونظرته للحياة فالرجل الزنجي واسع الثقافة كان أثناء الفيلم يعلم الرجل الأبيض منعدم الثقافة كيف يعيش؟! وكيف يتكلم؟!.
==== 
بين الدكتور أحمد جاد والحلاج في قصيدة ما غاب ذكرك


بقلم: أ. د. سعدون خلف عزر العتابي




دأب الشعراء على لون من الشعر يعرف بشعر المعارضات بمعنى أن الشاعر ينظم على غرار ما نظم غيره من الشعراء في موضوع معين ملتزما بنظم الآخر من حيث القافية والبحر والموضوع.
يقال: عَارَضَ فلانًا: باراه وأتى بمثْل ما أَتى به عارضَهُ في الشِّعْر وعارضَهُ في السَّيْر وعارضَه بمثل صنيعه وعارضَ شاعرًا: باراه جاراه في شِعره وأتى بمثله أو أحسَن منه.
وقد اشتهر هذا اللون من الشعر قديمًا وحديثًا فلا تخلو المكتبة العربية من المعارضات على نحو معارضة صفي الدين الحلي للمتنبي في قصيدته التي مطلعها: 
بأبي الشموس الجانحات غوارباً = اللابسات من الحرير جلاببا 
فعارضه الحلي قائلاً: 
أسبلن من فوق النهود ذوائباً = فجعلن حبات القلوب ذوائباً 
ثم انتقلت المعارضات الشعرية للعصر الحديث فقد عارض أحمد شوقي البحتري في قصيدته التي مطلعها:
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي       وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
بقصيدته التي مطلعها: 
صُنتُ نَفسي عَمّا يُدَنِّسُ نَفسي       وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جِبسِ
أما في عصرنا هذا عصر الحداثة وانزواء القصيدة العربية فقد بزغ نجم من مصر العربية أخذ على عاتقه درب المقاومة رغم الظلام الدامس ألا وهو الدكتور الشاعر والناقد أحمد جاد فقد كتب في أغلب أغراض الشعر وألوانه وقد برع في المعارضات الشعرية فعرض شوقي وحافظ وغيرهما حتى من الشعراء المعاصرين . وقصيدته (ما غاب ذكرك ) والتي مطلعها:
ما لاح بدرك أو غابت معالمه        إلا وطيفك في حدسي ووسواسي
تعد واحدة من الجياد في شعر المعارضات عارض فيها أبيات الشاعر الصوفي الحلاج والتي مطلعها:
والله ما طلعت شمس ولا غربت       إلا وحبك مقرون بانفاسي
ويبدو جليا هيمنة حرف السين لما له من خصائص الهمس والصفير وجريان الصوت لتنساب القصيدة وتجري بسلاسة وهمس واضح يوائم الخطاب المباشر   فلا يمكن الهمس للبعيد ويؤكد ذلك هيمنة كاف الخطاب أيضًا على النص بصورة لافتة للنظر على سبيل المثال لا الحصر: بدرك طيفك رؤياك ذكرتك عطرك منك رأيتك بالمقابل حضور الشاعر بخطابه وهمسه ما تشي به ياء المتكلم على نحو ( وسواسي أمنيتي أعراسي أنفاسي جلاسي نبراسي ) وغيرها كثير فتشكيل النص الشعري بهذه الصورة دليل التماهي والتقارب.
نص الحلاج صوفي أي في الحب الإلهي حتى قتل لعدم فهم نصوصه - اتهم بالزندقة - ونص جاد في الحب العذري الذي يرقى إلى درجة التقديس والقصيدتان من البحر البسيط وهو من البحور الطوال الذي يرد في الموضوعات الجدية.


استثمر جاد نص الحلاج معارضاً وقد تفوق كثيرًا إذ توالدت عنده المعاني في ستة وعشرين بيتًا بينما الحلاج خمسة ابيات فقط
. الأبيات الستة الأولى في قصيدة جاد بدأت بالنفي ثم الاستثناء وذلك لحصر المعاني فالجملة على المستوى النحوي خدمت الدلالة بل ولدت الدلالة على نحو:
ما مر يوم على رؤياك أمنيتي       إلا ذكرتك في حزني وأعراسي 
وما ذكرتك إلا ضمني فرح     حتى شممت عبير الورد والآس 
وبعدما حصر المعاني وعمقها استثمر جاد التشبيه لتكون مسوغاً للصورة التي ولدها وأكدها  بالحصر  بقوله: 
كأنك البدر في عيني مكتملا... في ظلمة العمر دون الخلق نبراسي 
واسترسل مستثمراً اللغة بوصفها مؤثرة بلحاظ البلاغة ومساحة الاختيار التي تأخذ بالقارئ سيميائيًّا فالقصيدة تشي بأن الشاعر هو ناقد أيضاً ففي البيت الثامن استثمر ( كم ) الخبرية ودلالتها على الكثرة:
كم ذا سألتك بالرحمن مرحمةً.. حتى أعود بقول غير مياس
إذن الح بالسؤال طالبًا الرحمة ثم استثمر الجناس ( بالرحمن مرحمةً ) على المستوى البديعي معمقًا دلالته. 
ومن الجدير بالذكر أنه استخدم في البيت التاسع الترجي وهيمنة الترجي والتمني مؤشر على الحرمان وإن كان المقام ترجي طيف من يحب 
أهفو إليك بما أوتيت من سبل... لعل طيفك يوهي نأيك القاسي 
معجم جاد يتقمن ألفاظه تقمناً حتى أن القارئ الفطن يعرف نصه من بين الالف النصوص بما أمتاز به من لغة شعرية سردية معززة بالحجج في أطار الإقناع.
وتأتي السردية على شكل سُلّم حجاجي يشد القارئ إليه فبعدما كرر السؤال عبر كم الخبرية من أجل العودة فهو ( يهفو ) للمخاطبة راجيًا طيف خيال ليوهي نأيها القاسي لكي يفيق من الترحال وحاله المنكسر لتكون تأوهاته وحسراته هذا الإبداع.
حتى أفيق من الترحال منكسرًا      فأسكب الدمع من كلمي بقرطاسي 
وبعد حالة الانكسار يبدو جاد ثابت الجأش ومع رقته إزاء المخاطبة فهو صلب شامخ ثابت في محبته:
لا يعرف اليأس قلب بالهوى ثمل     فأعزم العود دوماً بعد إنكاسي
فاليأس خارج قاموس جاد لا يعرفه. 
ثم عاد ليفتح النص مرة بعد آخرى عبر جملة إنشائية (استفهام) حتى لو أجاب بنفسه عن الاستفهام لكنه بالطبع يترك مساحة للإجابة يشغلها المتلقي نحو قوله: 
حتى متى نتقي ما الله مظهره     فلا نصرح إلا بين أقواس؟
لا يأبهن بأقوال مضللة    غير الضعيف فما للناس والناس؟
تعجب واستفهم في آن واحد متناصًّا مع قول الحلاج:
مالي وللناس كم يلوموني     ديني لنفسي ودين الناس للناس 
فالحوار السردي فتق الحقيقة على مصراعيها معلنا عبر حكمته 
( لا يأبهنَّ بأقوال مضلله غير الضعيف).
) ثم كرر الجملة الإنشائية النداء وما له من خصائص دلالية متماهيا مع مخاطبته كما يتماهى الحلاج في عبادته على المستوى الصوفي. ثم ينزاح في خطابه عدولاً من وصف مشاعره إزاء المخاطبة إلى وصف مشاعره لها بصورة مباشرة وكأنه خطاب سمر:
من قبل حبك كان الموت لي أفقا... لا يسطع الموت إلا بين ارماس 
وعلى طريقة خطاب الكبار يتناسى جاد حالة الانكسار ليتحول إلى حالة النصر والمفارقة في تشكيل الجملة الشعرية ففي البيت العاشر أفيق منكسراً فمنكسراً وردت حال منصوب ليكون الانتصار بعد ذلك في جملته حال منصوب أيضا 
حتى بعثت من الأحزان منتصراً... وكدت أعلن للأشعار إفلاسي
وكما اسلفنا معجم جاد هو معجم جاد فقد استثمر الفعل ( أدمن ) المسند لتاء المتكلم بمقام صلاة الحب وهذا عزز جملته الشعرية بمسحة جمالية مفارقاتية إلى حد ما:
أدمنتُ فيك صلاة الحب دائمة      بلا أذان ولا قرع لأجراس 
مع اقراره الدوام على حبها استخدم التوكيد اللفظي بخطابها لأنها مداد 
فأنت أنت مداد النور 
وحصر المحاسن فيها من أخمص القدم حتى مفرق الراس 
حسناء غيداء لا نقص ولا خلل   من أخمص الرجل حتى مفرق الراس 
على طريقة الأعشى غراء فرعاء.. 
فالنص هو ميدان لتفاعل النصوص على رؤية (الأسد خراف مهضومة ) فتراكمات الذاكرة عند جاد مزيج من المحسنات الجياد تتوالد عنده في أجمل حلة وقد وفق كل التوفيق بالخاتمة وحسن التخلص ليبدو كعنترة بن شداد فارسا لا يشق له غبار 
أني لفارسك المقدام من قدم    في بؤرة الحرب لكن دون أفراس
فبعد الشد والجذب والسردية والحوار وطيف الخيال ليس للمخاطبة من فارس مقدام غيره.




*****