فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الواحد والخمسون بعد المائة-

  • PDF

في مدينة الأبيض سيدي الشيخ
فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ
-الجزء الواحد والخمسون بعد المائة-
بقلم: الطيب بن ابراهيم
*إرسالية الأبيض وبناء قبّة لالّة مريم
+ صورة: قبة لالّة مريم -  كتابة ونقوش داخل قبة لالة مريم
تميزت عاصمة أولاد سيدي الشيخ مدينة الأبيض بطابعها الصوفي والجهادي وبأنها مدينة القبب والأضرحة منذ قرون منذ نهاية القرن السابع عشر تم بناء حوالي خمس عشرة قبة بالمدينة من طرف رئيس الزاوية الإمارة آنذاك سيدي بن الدين وعلى رأس هذه القبب قبّة سيدي الشيخ مؤسس الزاوية والطريقة الشيخية الذي تتوسط قبّته المدينة وتتميز بزيارة سنوية هي عبارة عن تظاهرة ثقافية تسمى ركب سيدي الشيخ بدأت مع الموكب الذي حمل جثمان سيدي الشيخ أثناء استشهاده في المقاومة ضد الإسبان بوهران .
*التكيف مع بناء القبب
شتان ما بين من يؤمن بثقافة لها جذورها وأبعادها الثقافية والتاريخية والاجتماعية ينتمي إليها وتنتمي إليه تغذي أفكاره وتوجه سلوكه وبين من يتعامل شكليا مع ثقافة غريبة عليه لا يفقه عنها شيئا. شتان ما بين السكان الذين يعيشون في موطنهم الصحراء يأكلون طعامها ويشربون ماءها ويلبسون لباسها ويسكنون خيامها ويركبون جمالها وبين من هو غريب على البيئة يتكيف مع سكانها بعضا من الوقت لدوافع وهمية وأداء واجب كُلِّف به عليه أن يؤديه قبل أن يعود لوضعه ومحيطه الطبيعيين.
لكن هنا في حالة إرسالية إخوة يسوع الصغار بمدينة الأبيض بالغ الإخوة في التكيف مع سكان المدينة وتقليدهم في أمور دينهم ودنياهم وعاداتهم وتقاليدهم فتخلى المقلدون عن لباسهم الأصلي مقابل لباس السكان من عباءة وبرنوس وشاش وتخلوا عن سكنهم الأصلي مقابل الخيمة والبادية وتخلوا عن غذائهم مقابل غذاء آخر واستبدلوا أنشطتهم الزراعية والصناعية والإدارية بنشاط الرعي وركوب الجمال والحمير للسفر وحمل الأثقال وجلب الماء ليصل الأمر لتقليد السكان في بناء بعض القبب حول موتاهم كقبَّة فالانتين وقبّة لالاَّ مريم !! ؟؟.
*قبّة فالانتين
فالانتين هي إحدى أوائل الأخوات البيض الستة اللواتي وصلن للأبيض سيدي الشيخ يوم 18 افريل سنة 1899 واشتغلن بمستشفى القس أندري كممرضات لعلاج المرضى وأثناء مزاولتهن لعملهن في المستشفى توفت الممرضة الفرنسية فالانتين في شهر أكتوبر سنة 1900م فقررت زميلاتها والسلطة الكنسية دفنها بمدينة الأبيض ولكن بطريقة تشبه طريقة دفن متصوفة المدينة وفعلا تم ذلك وأقيم لها ضريح قبَّة وأطلق عليها اسم القديسة فالانتين Saint Valentine وأصبح قبرها مزارا لزميلاتها وغيرهن من الفرنسيين الزائرين للمنطقة ليضاهي ضريحها قبب المدينة وبقي قبرها بالمدينة بعد مغادرة زميلاتها لمدينة الأبيض سنة 1902 لكن التجربة فشلت فنقلت رفاتها لاحقا لمقبرة الحديقة بعد مجيء جماعة إخوة يسوع الصغار للأبيض سيدي الشيخ وتأسيس إرساليتهم بها سنة 1933م.
*قبة لالّة مريم 
لم تمت فكرة إنشاء قبب خاصة برسل التنصير ورموزه بين نزلاء الإرسالية لخلق نوع من التوازن للقبب بين أتباع الديانتين بالمدينة ورغم فشل قبّة القديسة فالانتين ورغم بناء كنيستهم بشكل قبب المدينة حيث أطلق عليها وصف أكبر قبة بالمدينة تقرر بناء قبة لالّة مريم .
ولو تساءلنا هل توجد في المدن الفرنسية أضرحة وقبب لدفن قديسيهم كما هو عليه الحال عندنا في المدن الجزائرية ؟ خاصة في مدينة الأبيض سيدي الشيخ؟؟ وهل توجد قبب تحديدا لمريم عليها السلام ؟ وهل الفرنسيون عموما والكنيسة خصوصا يؤمنون بثقافة بناء قبب للقديسين والقديسات ؟ أم أن الأمر لدى إرسالية الأبيض في الجزائر يجيز ويبيح لها ما لا يجوز ولا يباح في فرنسا خصوصا ولدى المسيحيين عموما ؟.
وفي سياق البحث والتنقيب عن دوافع بناء الكنيسة بشكل قبة وإلحاق بعض القبب الأخرى بها كبقة لالة مريم تبين أن ذلك كان محل اتفاق وإعجاب من طرف رجال الدين ليستعمل كوسيلة فعالة للتقارب والتأثير على السكان فقبل أيام من افتتاح الكنيسة القبة جاء في  رسالة من رئيس الإرسالية الأب فوايوم إلى الأب داريو   بتاريخ 28 افريل سنة 1934 جاء فيها: أن بناء القبب المسيحية وتقديسها يمثل اتصالا نفسيا مع السكان المحليين وفي نفس الاتجاه وبعد أيام من الاحتفال بفتح الكنيسة في شهر ماي 1934 وفي شهر جوان كتب السيد ويبار لرئيس الإرسالية فوايوم قائلا :  الكنيسة الخاصة بك بسيطة لكنها تبدو رائعة في طابعها المحلي هذا هو المطلوب !؟.
إن أمر بناء قبة لالّة مريم بالأبيض رسالة تخص السكان المحليين تحديدا ولا علاقة لها بالفرنسيين أو الكنيسة وهي حلقة تضاف إلى سلسلة الحلقات السابقة في سياق سلوك التكيف والتقليد الذي درج عليه رجال الإرسالية منذ أن وطأت أقدامهم أرض مدينة الأبيض سيدي الشيخ.
يوجد بمدينة الأبيض سيدي الشيخ حوالي خمس عشرة قبة كلها لرجال لا توجد بينهم قبة لسيدة واحدة فهل بناء قبة لالّة مريم جاء في الأبيض لسد فراغ عدم وجود قبة لسيدة جزائرية ضمن قبب الأبيض؟ فالأمر يدخل في صلب أدوات وأساليب ومناهج الإرسالية التي درجت على إتباعها في التعامل مع السكان بناء على عاداتهم وتقاليدهم وما يؤمنون به وهو دغدغة عواطفهم ومشاعرهم للتقرب منهم وكسب ثقتهم خاصة أنهم اكتشفوا أن لمريم عليها السلام مكانة لدى المسلمين عامة ولدى سكان المدينة خاصة وهم من سبق  لهم أن فعلوا أكثر من ذلك ببناء المنارة والدعوة للصلاة عبر الأذان ووصف إرساليتهم بزاوية سيدنا عيسى...
لم يجد المنصرون طريقا إلا وسلكوه في التنصير فالمنطقة معروفة بطابعها ونفوذها الصوفي وبكثرة زوارها وزواياها وقِببها وأضرحتها فبنى الإرساليون الكنيسة بنفس شكل وأسلوب قبة سيدي الشيخ وبنوا مئذنة كنيستهم بنفس شكل مئذنتي المدينة والمنطقة. بعد ذلك اتّخِذ قرار بناء قبة لالّة مريم وكان صاحب الفكرة هو  جون دولاكروا jean de la croix كانت المناسبة بعد مرور عقد من مجيئهم دون تحقيق نتيجة تذكر فتم قرار بناء قبة لالّة مريم في أقصى جنوب غرب الحديقة واتبع في طريق بنائها الأسلوب المحلي فكانت قبتها أصغر حجما من غيرها بل أصغر قبة على الإطلاق بمدينة القبب الأبيض وبعد إتمام بنائها قام رئيس الإرسالية روني فوايوم شخصيا بالكتابة على جدرانها الداخلية بالخط العربي المغاربي والكوفي ولازلت الكتابة موجودة إلى يومنا هذا كما نُقشت الرسوم الموجودة بداخلها بسكّين على قطع من الجبس الطري قبل صلابته من طرف المستشرق لويس غاردي وهي طريقة مستوحاة من مساجد المغرب حسب اعترافاتهم.
تم افتتاح قبة لالّة مريم بتاريخ 3 جانفي سنة 1943 أي بمناسبة مرور عشر سنوات على تاريخ افتتاح الإرسالية وحضر حفل الافتتاح مجموعة من القساوسة والرهبان والأعيان والمدعوين وتم إكرام  الضيوف بشاة مشوية عملا بسيرة السكان في أهم المناسبات الدينية كما باركها لاحقا الأسقف مارسيي  Mgr mercier  يوم 23 جانفي  من نفس السنة.  
قبة لالّة مريم كانت تمثل تحفة صغيرة بين القبب بطول ثلاثة أمتار وعرض مترين ونصف يعلو سطحها قبة تتوسط سطحها تشبه في شكلها قبة مسجد بيت الصخرة بنيت في حديقة الإرسالية في مكان فسيح مخضر تصطف على جانبي الطريق المؤدي إلى بابها مجموعة من الأشجار. وهي تقع في أقرب مكان لباقي القبب المحلية الأصلية بالأبيض يطلُّ بابها على الجهة الشمالية مثل باب قبة سيدي الشيخ وبشكل وتصميم هندسي إسلامي هلالي الشكل وهو شبيه لكثير من أبواب المساجد والقبب بالأبيض آنذاك.
يتبع ...