فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ -الجزء الثالث والستون بعد المائة-

  • PDF

في مدينة الأبيض سيدي الشيخ
فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ
-الجزء الثالث والستون بعد المائة-

بقلم: الطيب بن إبراهيم
إرسالية الأخوات أقل مغامرة من إرسالية الإخوة
تميزت إرسالية أخوات يسوع الصغيرات بالأبيض سيدي الشيخ بفرعيها البدوي والحضري بالتحفظ والحذر في التعامل مع السكان والتحرك في إطار ضيق مقارنة بإرسالية الإخوة ورجالها المغامرين حيث اقتصر نشاط أخوات يسوع الصغيرات داخل إرساليتهن مع زُوارِهن وأحيانا بتبادلهن الزيارات مع عدد قليل جدا من العائلات خاصة في حالات المرض وذلك يعود لعدة اعتبارات منها طبيعة المجتمع الصحراوي البدوي المحافظ وطبيعة المنطقة الجغرافية المنعزلة وطبيعة دور المرأة في المجتمع البدوي وكذلك للتقاليد المحلية بالإضافة للمخاطر الممكن أن تتعرض لها المرأة في مثل هذه البيئات الاجتماعية والجغرافية خاصة الأجنبية من مضايقات واعتداءات محتملة وهو ما حدث بالفعل وكانت مرة واحدة مع أخوات البادية ولم تتكرر.
والحقيقة أن التخوف على الأخوات من طرف السلطات الوصية كان باديا منذ اليوم الأول وذلك يظهر من خلال توصيات ومواصفات مكان بناء إرساليتهن حيث شدد زعيمهم المحافظ الرسولي جورج مارسي في رسالة له من الحراش بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1946 أرسلها للأخوة تحث على ألا  تزيد المسافة بين إرسالية الإخوة وإرسالية الأخوات عن خمسمائة (500) متر وأن لا يكون مقر الأخوات بعيدا عن مقر الإخوة أكثر من مدة 10 دقائق سيرا على الأقدام.
* بين الاخوات والاخوة 
فعلا كانت أخوات يسوع الصغيرات أقل مغامرة من إخوة يسوع الصغار رغم أن أعدادهن كانت أحيانا أضعاف عدد الإخوة حيث بلغ عددهن في شهر افريل سنة 1955: (170) راهبة وهذا يعود لطبيعتن النسوية فالإخوة كانوا يقيمون خلوات صومعات في الصحراء قد تتجاوز الشهر أحيانا ويشاركون مع الرحل في قوافل الصحراء لجلب التمور بل مغامرات الإخوة في النشاط التنصيري كانت وقحة وهو ما أحرجهم أحيانا وهذا ما لم تتجرأ عليه الأخوات. ويمكننا أن نقارن هنا بين الطبيب الأب ميلاد عيسى والطبيبة إيمانيال بافي Emmanuelle Pavy لنجد أن ما قام به طبيب الإخوة  ميلاد عيسى رغم عدم تخصصه من عمل وجهد وعلاقات خارج المستشفى مع السكان مباشرة في بيوتهم كان يتم يوميا وحتى في حالة التوليد كان الرجل جريئا حيث كان يمتلك دراجة نارية يتنقل على متنها على مدار الساعة يوميا ليلا ونهارا من حي إلى آخر ومن  بيت إلى بيت في كل الظروف والأحوال وهو يعرف المدينة جيدا ويعرف سكانها وقبائلها وعروشها وأحياءها وأحداثها وأسرارها وكأنه واحد من سكانها بل سكانها لا يعرفون عن بعضهم ما يعرفه عنهم ميلاد؟!! وهذا ما لم تتجرأ على فعله المرأة الطبيبة الأخت إيمانيال بافي التي كانت تعمل بين أربعة جدران وتعرف موظفي المستشفى وبعض الأصدقاء الذين يعدون على رؤوس الأصابع ولا تستطيع أن تغامر بما يقوم به الطبيب ميلاد حتى في حالة التوليد وذلك رغم أنها كانت الأكثر مهنية وكفاءة من غيرها.
ليس الفرق في المغامرة بين الأخوات والإخوة في نشاط الطبيبين فقط بل في كل نشاط كان يقوم به الرجال مما جعلهم يقتحمون المجتمع المحلي رغم أنفه فهم رجال لا يهابون الخروج ليلا أو نهارا ولا يخافون الذهاب بعيدا في متاهات الصحراء فخرجوا للصحراء مسافرين سيرا على الأقدام مئات الكيلومترات وذهبوا عبر القوافل لجلب التمور من أقصى الصحراء وأسسوا إرسالية البادية وملكوا عددا من الإبل والخيل والحمير والغنم والماعز فعرفهم القاصي والداني من البدو كما عرفهم سكان المدينة.
* سياسة الارغام
وفي المدينة فرضوا على السكان الفقراء التعامل معهم ودق أبوابهم مرغمين لا مخيرين لترقيع أمتعتهم وأدواتهم وخردواتهم فكان للإرسالية إسكافي لترقيع نعال السكان وأحذيتهم وكان للإرسالية حداد لترقيع وتلصيق أوانيهم وخياط لترقيع ملابسهم ونجار لترقيع أبوابهم ونوافذهم ومطحنة لطحن قمحهم وشعيرهم وهكذا كان عهد الترقيع وليس عهد التجديد ولازلت أتذكر بعد الاستقلال مباشرة ونحن تلاميذ في ساحة المدرسة الابتدائية نجري ونلعب وأكثر من خمسين بالمائة منا بسراويل مرقعة وكانت تقدم لنا في الأقسام بعض الملابس المهداة من طرف دول صديقة للجزائر منها قمصان وسراويل ومعاطف وغيرها.
بالإضافة إلى ذلك طبيعة المجتمع البدوي المحافظ والدور الأبوي الذي يجعل الأب وصي على كل شيء في عائلته ولا يسمح بالتعامل مع أي فرد غريب مع أفراد عائلته إلا بعد إذنه ومشورته ولا يثق بأي غريب يدخل بيته ولو كانت امرأة كافرة في بعض الأحيان. هذه العوامل المختلفة وغيرها جعلت دور أخوات الإرسالية محصورا في محيط إرساليتهن ويتعاملن مع زوار يعدون على أصابع اليد عكس إرسالية الإخوة وقليل من الزيارت لبعض المرضى وحتى أخوات البادية كن يعشن نفس الظروف السالفة الذكر باستثناء زيارتهن لخيمة أو خيمتين من خيم جيرانهن.
بالإضافة لذلك ومما زاد إرسالية الأخوات عزلة أنها لم تتأسس إلا بعد مجاعة سنة 1945 المجاعة التي عرفت وقوف طوابير السكان يوميا أمام أبواب إرسالية الإخوة الذكور التي كانت تقدم لهم بعض الحساء الحريرة وحتى بعد تأسيس إرسالية الأخوات سنة 1946 لم تفعل مثل إرسالية الإخوة بتوزيع بعض القمح والشعير والأرز والتمر على الفقراء وخاصة بمناسبة عيد الميلاد لذا تميزت علاقتهن بأنها كانت أقل اندماجا مع السكان مقارنة بإرسالية الإخوة. 
وخلاصة القول أن البيئة الجغرافية والاجتماعية والثقافية فرضت نفسها على نشاط وتحرك أخوات يسوع الصغيرات بمدينة الأبيض وبواديها إذ أن دورهن كان محدودا جدا حيث أصبحن دائما في حاجة لحماية أو وصاية بل فرضت عليهن إلى حد ما ما فرضته على المرأة المحلية عكس حرية التحرك وجرأة النشاط ومغامرة المواقف التي تميز بها رجال الإرسالية. فأخوات الجنس اللطيف كن ألطف من وقاحة الأب ميلاد عيسى الذي كان يُعمّد الأطفال المرضى سِرا قبل موتهم وهو ما سنشير له لاحقا إنشاء الله وأن بصمات الأخوات الإنسانية تظهر في علاقاتهن بعيدا عن إقحام ما لا يقحم وابتزاز ما لا يبتز. 
يتبع…