بقلم: الطيب بن إبراهيم
العالم اليوم أصبح مجرد قرية صغيرة بل أصبح حيا من أحيائها وسكانه يعلمون بكل صغيرة وكبيرة تحدث في حيِّهم خاصة أثناء الحرب وهذا بفضل عولمة الإعلام المرئي وما وصلت إليه تقنياته العالية الجودة. وما يحدث اليوم من مذابح ومجازر في غزة على مدار الساعة منذ شهر ونصف الشهر يشاهده العالم كله بكل قاراته وشعوبه في مشاهد لا تحتمل.
لا يمكن أن نصدق ما نشاهد وما يحدث في غزة اليوم أمام أنظار العالم عامة وأمام أنظار الغرب بزعمة أمريكا خاصة الغرب الذي تغنى بحرية التعبير والديمقراطية والذي كثيرا ما تباكى على حقوق الإنسان غير المحترمة وكثيرا ما اتهمنا كشعوب شرقية وإسلامية بالتعدي على حقوق الإنسان وعدم احترامها ورفع المواثيق الدولية والحقوقية ولوّح بالعقوبات الزجرية إن لم تحترم تلك الحقوق. بل عوقبت وحوصرت كل الدول والشعوب المتمردة على الغرب ومنها كوبا وكوريا الشمالية والعراق وليبيا والسودان وايران وأفغانستان وغزة والبقية آتية.
هذا الغرب نفسه وبين عشية وضحاها غير جلده وناقض شعاراته ولا نقول مبادئه ووقف إلى جانب إسرائيل وهي ترتكب أبشع المجازر وأكثرها همجية ووحشية في تاريخ البشرية بعد مجزرتي هيروشيما وناغازاكي وقف مصطفا وراء إسرائيل بكل إمكانياته المادية والعسكرية والإعلامية والاستخباراتية وتشجيعا لإسرائيل أرسلت أمريكا حاملات طائراتها وغواصاتها وأحدث مخترعاتها العسكرية وكأن قوة جيش إسرائيل الذي لا يقهر البرية والبحرية والجوية لا تكفي لإبادة سكان غزة.
*مجازر الديمقراطيين !
هذا الغرب المتحضر يدعم إسرائيل في مجازرها ويدعم جزاريها ومتطرفيها وهو يسمع ويرى وزير الدفاع الصهيوني يوآف غالانت يتحدث لوسائل الإعلام عن الفلسطينيين ويصفهم جهارا بأنهم مجرد حيوانات بشرية تجب إبادتهم وبعده بأيام يظهر صهيوني آخر أكثر تطرفا ويطالب علنا بضرب غزة بقنبلة نووية هذا كله نتيجة موقف الغرب الداعم بكل إمكانياته إلى جانب الجزار بل أصبح يمده بالقتلة المتمرسين وكأن قنابل وصواريخ طائراته ودباباته وسفنه الحربية لم تشف غليله. ليس هذا فقط بل هذا الغرب منع في دوله الحرة والديمقراطية حتى مجرد التعاطف مع ضحايا مذابح غزة فعاقب المتعاطفين من مثقفين ونشطاء وإعلاميين ورياضيين وموظفين.
وحتى الدول والشعوب المتهمة غربيا بالدكتاتورية والعسكرية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا انتفضت ولم تحتمل تلك المجازر وكانت لها مواقف متقدمة حيث قامت بطرد سفراء إسرائيل. والحقيقة أن هؤلاء الغربيين هم أساتذة العالم في النفاق والتمثيل والظهور بمظهر حماة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وهم وحوش بشرية تفعل مع بني جنسها ما لم تفعله الوحوش ببعضها.
على مدار الساعة خلال شهر ونصف ومذابح الفلسطينيين متواصلة أمام مرأى العالم ولا يسمح لأحد بتقديم رغيف خبز أو جرعة ماء أو علبة دواء وبعد أن دمرت البيوت على رؤوس ساكنتها وحتى الفارون منهم يمنع هروبهم ويقتلون في الطريق وحتى سيارة إسعافهم تقتل معهم وتهدم المساجد والكنائس بل حتى المستشفيات دمرت على رؤوس المئات من مرضاها ورضّعها وجرحاها العاجزين على الحركة وهم في مكان آمن تحميه كل القوانين الدولية والقيم الإنسانية والأعراف البشرية.
أمام هذه المشاهد المؤلمة عادت بي الذاكرة إلى ما قرأته حول هذا الغرب واستحضرت مقولة إدوارد سعيد وهو ينتقد الغرب في كتابه الاستشراق ويذكر أن الغرب إلى وقت قريب كان يتحدث عن أكله لحوم البشر في حروبه الصليبية وتذكرت وصف الفرنسي روجي غارودي لغربه ب الشر الأبيض وهذا الوصف ورد في مقدمة كتابه حوار الحضارات الصادرة طبعته الأولى في شهر افريل سنة 1978 أي قبل اعتناقه للإسلام بأربع سنوات.
*الشر الابيض
والحقيقة أن من رأى ليس كمن قرأ وأن مفعول الوصف وأنت تشاهد بأم عينك مواقف الغرب الشر الأبيض حول مجازر غزة تختلف عن الوصف في قراءة عابرة لكن الأهم هو أن السيد رجاء غارودي لم يأت وصفه لغربه بالشر الأبيض من فراغ ولم يأت اعتناقه للإسلام أيضا من فراغ خاصة أن الرجل فيلسوف وأستاذ جامعي وصاحب تجارب علمية وفكرية مر بها في حياته في عدة محطات رئيسية كانت بدايتها مع الماركسية ثم الليبرالية وكان مسك الختام اعتناقه الإسلام.
بالإضافة لذلك أن الرجل بحكم انتمائه الاجتماعي والجغرافي والتاريخي والحضاري والثقافي للغرب وبحكم مستواه العلمي ومقامه الفكري وبحكم تنقله بين دول غربه ومشاركته في ملتقياه وندواته وبحكم علاقاته ومجالسته لساسته وكبرائه وبحكم الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيره وبحكم متابعته لأحداث عصره وأحداث تاريخ غربه جاء حكمه على الغرب بالشر الأبيض وقرر عن تفكير واقتناع الرحيل عن الشر الأبيض ليحط الرحال في عالم الإسلام.
وهنا نتوقف عند مبررات وصف الرجل للغرب بالشر الأبيض وباختصار شديد أليس الغرب هو من أباد هنود أمريكا وهو من أباد مسلمي الأندلس وهو من أكل لحوم البشر في الحروب الصليبية والغرب هو من احتل سكان قارات العالم وشعوبه واستعبدها ونهب مواردها وثرواتها وأشبعها جوعا وفقرا وجهلا وهو من أشعل فتيل الحربين العالميتين وفرنسا هي التي قتلت ستة ملايين جزائري باعتراف الفرنسيين أنفسهم والعدد عند غيرهم أكبر وقامت بتجاربها النووية في الجزائر والغرب هو من استعمل السلاح النووي في مجزرتي هيروشيما وناغازاكي ومذبحة ستالينغراد والغرب هو من كان وراء مذابح البوسنة ومذابح الفيتنام وهو من ضرب الفلوجة بالفسفور الأبيض وهو اليوم مشاركا فعالا في مذابح غزة. وأخيرا من كان وراء زرع إسرائيل بين ظهرانينا ومدها بالمال والسلاح والحماية ومذابحها لم تتوقف منذ تأسيسها سنة 1948 فكانت أول مذابحها دير ياسين . هذه الأفعال كانت مبررا قويا لغارودي حيث قال في كتابه حوار الحضارات ص 8 : وأنا أطلق عبارة الشر الأبيض على هذا الجانب من الدور المشئوم الذي نهض به الإنسان الأبيض في التاريخ إنها شهادة شهاد من أهلها.
أما المحطة الثانية لروجي غارودي (1913 -2012) والتي لم تأت هي الأخرى من فراغ هي اعتناقه للإسلام وهذا ليس بالأمر الهين لرجل علم وفكر غربي منتقد للغرب وحضارته وقيمه ويطالب بما هو أفضل. البداية كانت في لحظة تاريخية فارقة في حياة غارودي وهو في مخيم اعتقال للنازية بعين وسارة بولاية الجلفة الجزائرية وكان الحدث يوم 4 مارس سنة 1941 اليوم الذي نجى فيه غارودي من الموت بسبب مواقف جنود جزائريين هذا الموقف جاء بعد أن قام معتقلو المخيم بالاحتجاج على ظروفهم القاسية وبعد الإنذار أعاطى الضباط الفرنسيون عملاء النازية الأمر للجنود الجزائريين بإطلاق النار على خمس مائة متظاهر فرفض الجنود فعل ذلك وحجتهم أن دينهم يمنعهم من قتل أسراهم العزل وذلك الفعل يعتبر منكرا. هذا الموقف صدم غارودي ولم يكن يتوقعه خاصة من طرف جزائريين عانوا من ظلم فرنسا خلال عقود.
*روجي غارودي وقيم الجزائر
يقول روجي غارودي في مقدمة كتابه حوار الحضارات في ص 5: وما أجدني حيا إلى الآن إلا بفضل هؤلاء المحاربين المسلمين. وقد أوضح أحدهم لنا سبب ذلك: إن مما ينافي شرف محارب من الجنوب أن يطلق رجل مسلح النار على رجل أعزل . ويعلق على ذلك قائلا: أن ما تعلَّمَه أولئك البسطاء أكثر مما تعلمه في جامعة السوربون!!. وبعد انتهاء الاعتقال لم ينته غارودي من البحث عن الإجابة عن السؤال كيف يمنع الإسلام اتباعه من قتل الأبرياء العزل؟ وهو ما لم يكن يتوقعه ويصدقه لو سمعه قبل أن يراه بعينه وبعد خروجه من المعتقل مباشرة قصد رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ البشير الإبراهيمي الذي استقبله سنة 1944 في نادي جمعية العلماء بقسنطينة فكان ذلك اللقاء لحظة أخرى فارقة في حياة غارودي الذي اعترف في مذكراته أنه بدأ يفكر في اعتناق الإسلام بعد تلك المقابلة. وأخيرا توج أعماله وأبحاثه ونشاطه الفكري باعتناقه الإسلام يوم 2 جويلية سنة 1982 بالمركز الإسلامي بجنيف.
خلاصة القول: أن ما اكتشفه غارودي من أخلاق وقيم الجنود البسطاء في المعسكر النازي ورفضهم إطلاق النار على أسراهم وتعريض حياتهم للخطر هو ما يقوم به مقاومو الاحتلال في غزة مع أسراهم وهو ما عبر عنه المفرج عنهم ومذابح فرنسا وقتلها 45 الف جزائري خلال أسبوع في شهر ماي سنة 1945 هو ما تفعله إسرائيل ضد سكان غزة إنها نفس الصورة يعيدها التاريخ في غزة وكم من غاروديٌ اليوم مرة أخرى يصف الغرب وأمريكا بالشر الأبيض؟!.